جاءت سورة البروج مؤكدة على عظمة الأديان السماوية، تلك الأديان الشاملة التي جاءت بقيمة ثابتة هي توحيد العبودية لله، كما جاءت بمبادئ سامية فهى تحترم الصغير قبل الكبير، الفقير قبل الغني، والضعيف قبل القوي.. فبطل قصة أصحاب الأخدود التي تتحدث عنهم السورة هو غلام صغير أجرى الله على يديه هذه القصة التي سنقرأها فى حديث نبينا، وهذا الصغير يقف امامه استاذه الراهب فى القصة معترفاً بأن تلميذه أفضل منه، وأي تشجيع أعظم من أن يمدح الأستاذ تلميذه ويعترف بجهوده.
ولكن هذا الغلام الذى ذكره الله فى قرآنه لابد أن له قلباً ذو صفات خاصة ليحظى بهذا التشريف..نعم هو كذلك فهو يثق فى خالقه ثقة عمياء ويلجأ اليه فى شدته التجاءاً صادقاً داعياً -اللهم إكفنيهم بما شئت- فهو هنا يحمل الثقة المطلقة بالله عزوجل وقد إستغنى عن التفصيل في كيفية النجاة، مؤمناً أنها لا تأتي حسبما يخطط لها الإنسان، وإنما تأتي على الكيفية التي يريدها الله سبحانه وتعالى وما على الإنسان إلا أن يحسن الثقة بالله سبحانه.
وهذا الغلام إستطاع أن يوضح مفهوم النصر..فليس المهم أن ينتصر هو -أي الغلام- وإنما المفهوم الحقيقى للنصر هو إنتصار المبدأ وليس إنتصار الأفراد..
فلنقرأ معاً حديث نبينا عن هذا الغلام وقصة أصحاب الأخدود:
عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فإبعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، وكان في طريقه الذى سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان كلما أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر.
فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل..
فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس.
فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى فإن إبتليت فلا تدل علي.
وكان الغلام يشفى الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس الملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: هى لك إن أنت شفيتني، فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك فآمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى.
فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك..؟
قال: ربي، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام.
فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ منه الأكمه والأبرص فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى... فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له إرجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع، ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به.
ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: إذهبوا به إلى جبل فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه، وإلا فالقوه من فوقه.
فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا، ورجع يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعلت بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى.
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به الى وسط البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانقلبت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعلت بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى.
وقال للملك: أنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟، قال تجمع الناس وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم إرمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الملك الناس وصلبه ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه فمات، فقال الناس آمنا برب الغلام..
فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله آمن الناس، فأمر بحفرالأخدود -وهو حفرة عميقة جداً- وأشعل فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فألقوه بها، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الصبي: يا أماه إصبري فإنكِ على الحق» رواه الإمام مسلم كتاب الزهد والرقائق باب قصة الغلام ورواه الإمام أحمد في باقي مسند الأبصار ورواه الإمام الترمذي في باب سورة البروج
فهذا الحديث يحمل في جوانبه، معان عظيمة ومبادئ هامة فى بناء الشخصية الثابتة التى لاتتخلى عن الحق مقابل عرض من الحياة الدنيا..
تقديم: غادة بهنسي.
المصدر: موقع البوابة الدينية.